الصفحة الرئيسية  أخبار وطنية

أخبار وطنية المنصف بن مراد يكتب: رسـالـة مفتوحة إلـى السيـد راشد الغنوشي، وتونس تغرق

نشر في  20 جويلية 2016  (09:37)

بقلم المنصف بن مراد

انّ الاختلاف لا يعني العداء أو الاستئصال وان كان في السلطة أو خارجها من يعادي لمجرّد تخالف في الرأي.. انّ ثقافتنا السياسية جامدة لأنّها تعتبر الاختلاف جريمة أو كفرا في حين في الاختلاف رحمة، وحتى لو تألّب علينا شبابك في الفايسبوك أو في غيره فهذا لا يمنعنا من طرح أهم المشاكل خاصّة ان الأحزاب المدنية فشلت ـ الى حدّ هذا اليوم ـ في ايجاد الحلول الكفيلة بإنقاذ البلاد كما فشلت ـ ولأسباب أخرى ـ الأحزاب الدينية في تحقيق الهدف نفسه..

واذا لم نجد الحلول فلأنّ أغلب الأحزاب المدنية متشبّثة بالكراسي في حين فشل الاسلام السياسي التونسي لأنه اعتبر تونس أرض غنيمة وغزوات.. انّ بلادنا تمر اليوم بأزمة خانقة بسبب غياب رؤية اجتماعية وأحلام تنموية لفائدة المناطق المحرومة ولغياب مشروع عظيم يسمح بميلاد بلد تبلغ نسبة النموّ فيه 10 ٪ وكذلك نتيجة انهيار القيم.

منذ البداية أعلمك يا استاذ راشد بأني كتبت افتتاحية صارحت فيها السيد الباجي قايد السبسي بحقائق والحال انّ البلاد تتخبط في الاضطرابات الاجتماعيّة والارهاب والمديونية وانهيار الدولة وبروز امبراطورية المافيا والمهرّبين! انّ تونس تضيع من بين أيدينا والأحزاب تتصارع لفرض مصالحها أو ايديولوجيتها أو قراءتها للدّين وهذه مصيبة البلاد الكبرى..

واسمح لي يا استاذ راشد بأن أذكّرك بأني ترعرعت في عائلة مشايخ الاسلام الوسطي وقد دافعت بشراسة عن العقيدة المتفتّحة والحركة الوطنية... فعلت ذلك دون انغلاق ولا تشدّد اذ كان والدي شيخ الاسلام محمد الصالح بن مراد ـ رحمه الله ـ منارة من المنارات الاسلامية وفي الوقت نفسه يعزف على البيانو ويدرس بناته، وفضلا عن ذلك فقد سمح في سنة 1936 لبشيرة بن مراد بتأسيس اول حركة نسائية اسلامية وكانت ابنته هذه متفتّحة على محيطها ومؤمنة بحقوق المرأة وبقضية الشعب الأولى آنذاك وهي الاستقلال! وكل هذه المبادئ فقدتها تونس حتى برزت عقيدة عنيفة وخطيرة ومخربة قبل وبعد 2011..

كما اذكّرك بأني ـ والى يومنا هذا ـ مازلت ادافع عن حق كل حزب في النشاط بشرط احترام الدستور والقانون ومكتسبات المرأة والمبدعين والمثقفين.. أذكرك بأنّ هناك قراءات عديدة لفهم الاسلام تختلف تماما مع ما فهمتم من الدين وأنّه لا يوجد في عالمنا «بابا اسلامي» يمتلك الحقيقة الدينية. لقد ترك «بابا المسيحيين» السياسة منذ سنين للانصراف الى المسائل الرّوحانية والأخلاقية، ذلك ان الخلط بين السياسة والدين يؤدّي الى انهيار وقمع الفكر والابداع. إنّ استغلال العقيدة من قبل السياسيين لا يضمن كفاءتهم ولا نظافة أيديهم، وكل من جعل من الدّين القضية المركزية سيخفق في القرن الحادي والعشرين..

وأذكرك أيضا بأنّي دافعت عن مساجين الاتجاه الاسلامي عندما زجّ بهم في برج الرّومي وكان من نتائج ذلك ان تمّ حجز مجلّة REALITES ثم ناديت سنة 1991 بعفو عام يشمل كل التونسيين، كما دافعت ـ بكلّ حزم ـ عن المرحوم منصف بن سالم عندما فصله النّظام عن عمله في الجامعة لكن ها انّي اليوم مقتنع انّ الاسلام السياسي أو بالأحرى توظيف الدين من لدن سياسيين لا يمكن ان يحل المشاكل أو ينقذ البلاد..

بكل صراحة ان غزو تونس غير ممكن وليس في متناول أيّ حزب ديني او تنظيم ارهابي لأنّ نساء هذا البلد ومبدعيها ونخبها صامدون ولأنّ معدن هذا الشعب ليس بالسّهل محوه بجرّة قلم او بقرار حكومي أو حزبي..

انّ لي رأيا بخصوص توظيف العقيدة في البلدان الخليجية لفائدة العائلات المالكة وتوظيف العقيدة العمياء في افغانستان أو تركيا التي ازدهر اقتصادها لكنّه لم يفض مشاكلها السياسية كما لم يحقق النجاح الشامل فيها وبالتالي لا وجود لقراءة موحدة لدور الاسلام السياسي الذي استغله البعض لتدمير العباد والمنشآت وحتى الجوامع والمتاحف في سوريا وليبيا والعراق..

ثم انّ التاريخ يؤكّد انّ كل الشعوب التي تخلت عن توظيف الدين عملت بجدّ وضحت واصبحت تغزو الفضاء وتوفّر لمواطنيها نسبة من الرّفاهة.. ان اليابان وألمانيا والغرب بصفة عامّة أضحت قوّة اقتصادية ضاربة لأنّها جعلت من العقيدة الدينية أمرا شخصيا لا تتدخّل فيه الدولة ولا أيّ حزب على الاطلاق..

وأمّا بالنسبة الى تونس فقد مرّت بمرحلة (مازالت ولو نسبيا) سلبية وخطيرة وأقصد عهد الترويكا، فقد عرفنا معها الارهاب والعنف المسلط على المبدعين وخطب الأيمة الداعية الى القتال في سوريا وتخريبها والى تكفير المفكرين ومحاولة الحدّ من حقوق المرأة... كما عرفنا انهيار الدولة وبروز عصابات مافيا الحدود والفوضى والمديونية والمحسوبية وكل ذلك باسم الدين والعقيدة وهيستيريا الرئيس المؤقّت وكأن تونس صارت «ناديا خاصا» أو مخبرا..

لقد فشلت احزاب الترويكا في انقاذ البلاد أو ارساء نظام حداثي وعادل لأنّ الوزراء لم تكن لهم الكفاءة المطلوبة ولأنّ الأحزاب الحاكمة ظنّت انّ تونس غنيمة وانه بالإمكان تغيير هوية هذا الشعب وإرغامه على قبول نظام عقائدي لا يتماشى مع معدنه وجذوره، كما أصبحت تونس بقرة حلوبا تستغلّ الأحزاب الحاكمة ثرواتها! لقد حاولت عديد الأطراف من تونس وخارجها خوض هذه المغامرة المدمّرة وكأنهم يتعاملون مع بلاد لا أصل لها ولا تاريخ ولا مستقبل!

لقد فشل «الاسلام السياسي» في تونس وسيفشل لأنّ النساء والنّخب والإطارات والمثقّفين وحتى عددا هاما من الطبقة الوسطى رفضوه ولأنّ الحكومة كانت دون كفاءة ولأنّ المشروع العقائدي لم يقنع الاّ جزءا من 3،2 مليون ناخب..

وأمّا نجاح نداء تونس والباجي قايد السبسي في الانتخابات الأخيرة فقد كان نتيجة رفض النّاخبين لأيّ مشروع سياسي ديني كانت حركة النهضة تحاول تمريره.. فهناك رفض قاطع لتوظيف الدين من قبل السياسيين يجب أخذه بعين الاعتبار!

واليوم؟.. لقد وقع الفصل المبدئي في حزبكم بين الدعوي والسياسي لكن كيف يمكن تغيير هوية حزب عقائدي لأنّ مؤتمرا أقرّ ذلك! فما هو موقف أغلبية كوادر النهضة من المتشددين في حزبكم والداعين الى اسلمة المجتمع التونسي والرافضين للمشروع الحداثي؟.. انّ برنامج هؤلاء هو برنامج المنظمة الاسلامية العالمية التي دعت الى الارهاب والخراب وتغيير الأنظمة السياسية المدنية القائمة..

لا أنكر أنّ هناك حمائم في حزبكم أحترمهم وهنالك اجراءات ايجابيّة اتخذتها أنت شخصيا لانقاذ حزبك من المتصلبين ولارساء نظام تشاركي مع الأحزاب المدنية وهذا أمر محمود، لكن ما هي طبيعة الحركة الدعوية وما هي علاقتها بالنهضة والأيمّة المتشدّدين الذين يتهجّمون على الحريات وحقوق المرأة والمبدعين ومنافسي حركة النهضة وحتى الاعلاميين المناهضين لمشروع أسلمة الشعب؟

عندما نشاهد حزبكم يتهجّم على وزير شؤون دينية معتدل (وأقصد السيد عثمان بطيخ) وتنجحون في تعويضه بوزير متشدّد، وعندما تساندون الأيمّة ذوي الخطاب العنيف، أو اقصاء 3000 قاض في تركيا نحن نشك! ثم عندما يصف السيد نور الدين البحيري من عبر عن فرحته بنبأ سقوط أوردوغان بالإرهابي.. فهل أصبح من يخالفكم الرأي ارهابيّا؟

انّي ضد الانقلاب العسكري لكن لي عديد الاحترازات على مساندة أوردوغان لضلوعه في تدمير سوريا ومواقفه من داعش كما لا أوافقه على عزل 3000 قاض و6000 ضابط في يوم واحد واهانة العسكر! هناك دولة القانون والمؤسّسات ويجب محاسبة الانقلابيين بطريقة عادلة ولو أنّ 3000 من القضاة الوسطيين تمّ فصلهم من مناصبهم! ثم لماذا ألحق الحرس الوطني التركي بوزارة الداخلية قبل سنة؟ هناك كثير من الأسئلة المطروحة بخصوص النظام التركي الذي ساند داعش والعنف وهو ينصب الآن السلطان أردوغان ويلوّح بخنق الحرّيات.

انّ الاسلام السياسي في تونس بحاجة الى ثورة كوبرنيكية تذكرنا بالعصر الذهبي الذي ازدهر فيه الاقتصاد والثقافة والعلوم.. لقد تحقّق ذلك للعالم الاسلامي زمن الفلاسفة والشعراء والعلماء والمفكّرين والخلفاء المستنيرين الذين كانوا حماة الفكر والابداع وحتى الزندقة.

فهل انّ حزبكم قادر على تغيير اهدافه وحتى هويته فيستلهم من الاسلام الزيتوني مبادئه وفي الآن نفسه يصبح من المدافعين الشرسين عن الحداثة وحرية الإبداع؟ هل ستكون لحزبكم توجّهات اجتماعية واضحة عوض انجذابه إلى الليبيرالية المفرطة؟ ثم ما هو موقفكم من حقوق المرأة؟ والعنف؟ والمنظمة الاسلامية العالمية؟ والمساجد التي وقع غزوها من قبل المتشدّدين و«أصدقاء الارهاب» ومن حرية الصحافة؟ ومن التعليم؟ ومن الفساد؟ ومن الثقافة والمثقفين؟ ومن العلوم الصحيحة؟ ومن قطر والسعودية وتركيا؟ وفجر ليبيا؟ ومن الاجتهاد في الدين؟ كلها أسئلة تتطلب لا فقط الكلام بل الأفعال!

الشعب التونسي لم يولد منذ سنة، بل إنّنا متجذّرون في الحضارة منذ 3000 سنة ولنا أبطال وبطلات ومعدن يرفض كل الانزلاقات وسينتصر على كل من يحاول تطويع إرادته من أجل عقيدة تتناقض والحريات، كل الحريات!

أعتقد يا أستاذ راشد وبعض قيادات النهضة أنّكم قادرون على تطوير فكر الاسلام السياسي في تونس وابتكار منظومة فكرية عقائدية جديدة تستلهم مبادئها من الاسلام الزيتوني ومع هذا تجعل من الحريات ركيزة للتعايش والتنمية والاّ انقرض الفكر العقائدي مثلما انقرض الديناصورات!